
عبدالله ضريبينة –
في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها مجتمعنا، وما يرافقها من تآكل تدريجي للقيم الأخلاقية والمبادئ التي شكلت على مدى أجيال أساس تماسكنا الاجتماعي، أصبح لزامًا علينا أن ندق ناقوس الخطر أمام واقع مقلق يهدد مستقبل الأجيال القادمة، فمشاهد العنف اللفظي والجسدي، وتراجع قيم الاحترام والتضامن، وضعف الإحساس بالمسؤولية، والانفلات السلوكي في الفضاءات العامة أصبحت مظاهر يومية في حياتنا دون أن تثير لدى الكثيرين الشعور الكافي بخطورة ما يقع. وهنا تبرز الحاجة إلى وقفة جادة لمساءلة الذات الجماعية: من يتحمل فعليًا مسؤولية هذا الانحدار المتسارع، وإلى أي مدى نحن جميعًا متورطون، بشكل مباشر أو غير مباشر؟ الأسرة، باعتبارها النواة الأولى للمجتمع، تتحمل جزءًا أساسيًا من المسؤولية بعد أن تراجع دورها التربوي لصالح مؤثرات خارجية كوسائل التواصل الاجتماعي وثقافة الاستهلاك السطحية، مما يفرض مراجعة شاملة لوظائفها التقليدية وتحفيزها عبر برامج دعم وتكوين لإعادة غرس قيم الاحترام والالتزام وروح المواطنة في نفوس الأبناء منذ مراحل الطفولة الأولى. وفي ذات السياق، فإن المؤسسات الأمنية مطالبة بإعادة صياغة علاقتها بالمجتمع، ليس عبر مقاربات أمنية صرفة، بل عبر استراتيجيات وقائية تدمج الجوانب التوعوية والتحسيسية، فالأمن الحقيقي لا يتحقق فقط بتواجد الدوريات وتطبيق العقوبات، بل ببناء ثقافة جماعية تحترم القانون وتنضبط له طوعًا عن قناعة وإيمان. ومن جهة أخرى، تتحمل المدرسة نصيبًا وافرًا من هذه المسؤولية، إذ لا يكفي أن تكون مؤسسة للتلقين المعرفي، بل يجب أن تتحول إلى فضاء لبناء الإنسان المواطن، عبر إدماج التربية الوطنية والمواطنة في صلب المناهج التعليمية والأنشطة الموازية، وتعزيز مهارات الحوار، التسامح، وحل النزاعات سلمياً في نفوس التلاميذ. وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى الدور الحيوي للإعلام باعتباره صانعًا للرأي العام ومؤثرًا في الوعي الجمعي، حيث ينبغي أن يتحرر من منطق الإثارة السطحية والسباق نحو نسب المشاهدة على حساب القيم، وأن يتحمل مسؤوليته الوطنية في إنتاج محتوى إعلامي يرتقي بالذوق العام ويعزز قيم المواطنة والمبادرة الإيجابية. إن واقع الظواهر السلبية الذي نعيشه اليوم ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة تراكمات من الإهمال وسوء التقدير، مما يجعل الحاجة إلى إصلاح منظومة القيم أمرًا ملحًا وعاجلًا لا يحتمل مزيدًا من التأجيل أو التسويف. نحن أمام لحظة حاسمة تتطلب وضع رؤية وطنية شاملة تتداخل فيها أدوار مختلف الفاعلين، من الأسرة إلى المدرسة، ومن المؤسسات الدينية والثقافية إلى الأجهزة الأمنية والإعلامية، رؤية قوامها الاستثمار في الإنسان أخلاقيًا قبل أي شيء آخر، واستراتيجية تقوم على التكوين المستمر، والإشراك الفعلي للشباب في صياغة السياسات التربوية والثقافية، ودعم المبادرات المدنية الهادفة إلى تقوية النسيج الاجتماعي، وتجريم كل مظاهر التحريض على العنف والكراهية والانحراف. فحماية القيم ليست شعارًا سياسيًا يُرفع في المناسبات، بل مشروع حضاري طويل النفس يتطلب العمل الدؤوب، والمتابعة الدقيقة، وتوزيعًا واضحًا للمسؤوليات دون تبرير أو تواطؤ مع مظاهر الانحلال والانحراف. إن المستقبل لن يرحمنا إذا فرطنا اليوم في مسؤولياتنا تجاه الأجيال الصاعدة، وإن التردد أو التساهل في معالجة هذه القضايا الحيوية سيكلفنا الكثير على مستوى الأمن الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية، والاستقرار السياسي. اللحظة تفرض على الجميع، مسؤولين ومواطنين، أن يستشعروا حجم التحديات، وأن يضعوا إنقاذ القيم وتربية أجيال ملتزمة وواعية على رأس أولويات السياسات العمومية والاستراتيجيات المجتمعية، فبدون إنسان متشبع بالقيم والمواطنة، لن تنفع أي مشاريع مادية، ولن تصمد أي مؤسسات أمام رياح التدهور القيمي الذي بات يهدد أسس مجتمعنا من الداخل.